يوجه الإسلام الغرائز إلى تحقيق غايات سامية، ولا يدعو إلى استئصالها والقضاء عليها نهائيا:
فالغضب مثلا غريزة إنسانية عمل الإسلام على توجيهها الوجهة السليمة التي تتحقق معها تلك الغايات السامية والنبيلة. وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ليس الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"16. فقد يغضب الإنسان لكن لا ينبغي أن يدفعه غضبه إلى استعمال القوة ضد الناس وصرعهم.
أما إذا كان الغضب لأمر الله الذي يعود على الناس بالنفع، فإنه محمود ومقبول: عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: أتى رجل النبي صلى الله علي وسلم فقال: إني لأتأخر عن صلاة الغداة من أجل فلان مما يطيل بنا. فقال فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قط أشد غضبا في موعظة منه يومئذ. فقال: يا أيها الناس إن منكم منفرين، فأيكم ما صلى بالناس فليتجوز، فإن فيهم المريض والكبير وذا الحاجة.17
والعصبية الجاهلية مذمومة بما أنها لوثة قوم أو نعرة جنس. وفي الحديث" ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية"
لكن العصبية مقبولة إذا كانت نصرة للحق: أخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"انصر أخاك ظالما أو مظلوما. قالوا يا رسول الله، هذا ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما؟ تأخذ فوق يديه" 19
فالمطلوب إذن تصريف تلك الغرائز في خدمة أغراض الشرع من تحقيق للعدل والمساواة والحرية وغير ذلك، لا محوها نهائيا من النفس الإنسانية.
يعتبر الإسلام تحقيق مصلحة الإنسان مقصدا أساسيا للتشريع، بما يعنيه ذلك الاعتبار من العمل على ضمان الحقوق الأساسية لإنسان، بما أنها مصالح ثابتة لا تخرج عن الدوائر الثلاثة الكبرى: الضروريات والحاجيات والتحسينيات." هذه المصالح-على تفاوتها- تعتبر مفاهيم دستورية أساسية كبرى، تستقطب كافة قواعد التشريع السياسي، وأحكامه التفصيلة، المنصوصة منها والاجتهادية"20
وفي دائرة الضروريات رسم الإسلام حقوقا مشروعة لخصها علماء الأمة في خمس: مصلحة الدين، ومصلحة النفس، ومصلحة العقل، ومصلحة العرض ثم مصلحة المال. فالإسلام رفع إذن من قيمة بعض حقوق الإنسان إلى مرتبة الضروريات التي لا تستقيم حياة الإنسان إلا بمثل حق الحياة(مصلحة النفس)، وارتقى ببعضها الآخر إلى مرتبة الحاجيات مثل حرية الرأي، إلى غير ذلك.
إن هذا الإطار الذي رسمه التشريع في النظر إلى حقوق الناس، وفق الدوائر الثلاث، هو إطار يستوعب كل حقوق الإنسان، انطلاقا من رؤية عامة للدين، لخصها أبن القيم رحمه الله في قوله:"إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها،ومصالح كلها، وحكمة كلها. فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة. وإن دخلت فيها بالتأويل..."
وفي هذا الإطار أيضا قد ينظر إلى استخلاص العلماء- استقراء من نصوص الشريعة- قواعد تكرس حقوق الإنسان بشكل صحيح، مثل "لا ضرر ولا ضرار" و "الضرر يزال" ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح" والإضرار لا يبطل حق الغير و "الأصل براءة الذمة" و"البينة حجة متعدية والإقرار حجة قاصرة" ويضاف الفعل إلى الفاعل لا الآمر ما لم يكن مجبرا" ... وغير ذلك من القواعد.
شرع الإسلام الأحكام أحكاما تضمن تحقيق تلك الحقوق. من أمثلة ذلك:
في حق الحياة، قال تعالى
من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا) (المائدة32). وقال تعالى
ولا تقتلوا أولادكم من إملاق...)(الأنعام151)... وغير ذلك.
في حق الحرية: قال عمر رضي الله عنه مثلا:"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟" كما شرعت أحكام الإكراه والاضطرار واشترطت الحرية في التكليف...
وفي حق المساواة، قال تعالى
إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم)(الحجرات13). ومرت أحاديث في نفس المعنى.
وفي حق العدل، لا يجوز الظلم:"يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا..." 23 وهو-أي الظلم- مرفوض حتى في حق غير المسلم:عن عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من قتل نفسا معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما"24
ويطول المجال ‘إذا ذهبنا نستعرض أمثلة أخرى، غير أننا نعيد التأكيد أن ما يهمنا هنا هو التربية على حقوق الإنسان في الإسلام لا استعراض تلك الحقوق، إذ البحث في حقوق الإنسان في الإسلام "يتطلب منا بيان الشريعة الإسلامية بكاملها"25 و"الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في الإسلام"، والمرفق مع هذا الموضوع، يشير إلى جملة من تلك الحقوق.
وتجدر الإشارة، أخيرا إلى أن كل جزيئة في دين الله تعالى لابد أنها شاملة قطعا أو أكثر من حقوق الإنسان، إذ "الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها، وإنما قصد بها أمور أخر هي معانيها، وهي المصالح التي شرعت لأجلها. فالذي عمل من ذلك على غير هذا الوضع فليس على وضع المشروعات"26
وليس في وسعها إدراك جميع تلك المصالح والحقوق، وحكم الله سبحانه في خلقه كثيرة، أدركنا بعضها وستر عنا سبحانه الكثير منها. وسبحان من تنزهت أفعاله عن العبث:"ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك)(آل عمران 191)
1- زهدي يكن، تاريخ القانون، ص 233
2- عن كتيب "هذه هي أمريكا" نشر وتوزيع وكالة الإعلام الأمريكية، والكلام في المتن موجود على ظهر الغلاف
3- حسين جميل، حقوق الإنسان في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، سلسلة الثقافة القومية، الإصدار رقم 01، فبراير 1986 ص 18.
4- عن: المواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، منشورات الوزارة المكلفة بحقوق الإنسان، المغرب.ط1 /1998 ص11/12
5- أحميدة النيفر،"حقوق الإنسان في الإسلام: من الإسقاط إلى الذاتية" مقال بمجلة العالم اللندنية عدد 150 (حلقة 02)، 27 دجنبر 1986
6- يقول ماركس عن استعمال انجلترللهند:"...مهما تكن الجرائم التي قد تكون انجلترا ارتكبتها، فإنها الأداة غير الواعية للتاريخ في إنجاز هذه الثورة الجذرية لتمدين الشعب الهندي)عن: أدوارد سعيد، الاستشراق- المعرفة-السلطة- الإنشاء. ترجمة كمال أبو ديب/مؤسسة الأبحاث العربية بيروت ط 2/1984 ص 170/171
ويقول عبد الله ساعف عن ماركس أنه:"حيا استعمار إفريقيا الشمالية باعتباره عملا حضاريا جليلا" من كتاب:"كتابات ماركسية حول المغرب"إعداد وتعليق عبد الله ساعف، دار توبقال للنشر، ط1/1987 ص 29.
وكتب أنجلز بخصوص المكسيك:"وفي أمريكا شهدنا غزو المكسيك، وإن هذا لمما يثلج فؤادنا... فمن مصلحة نموه مستقبلا أن ينتقل إلى وصاية الولايات المتحدة"(نفسه ص 37 هامش 89)
7- هذا باعتبار ارتباط حقوق الإنسان بعدة مفاهيم كالعدل والحرية والمساواة وغيرها.
8- سيد قطب رحمه الله، في ظلال القرآن، دار الشروق، ط11/1985، ص6/890
9- أخرجه أحمد(2/411) عن أبي نضرة، وإسناده صحيح إلا أنه مرسل
10-أخرجه مسلم
11-د.فتحي الدريني"خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم، مؤسسة الرسالة، بيروت.ط1/1402-1982 ص108.
12-أخرجه في الأدب، باب قول الله تعالى :"يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم....هم الظالمون" حديث 6043
13-البخاري أيضا في الأدب، باب ما ينهي عن السباب واللعن، حديث 6050
14-شهاب الدين القرافي رحمه الله، الفروق، طبعة الحلبي، ص 1/141
15-د. محمد سعيد رمضان البوطي، ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية، مؤسسة الرسالة، بيروت ط4/1402-1982 ص51
16-أخرجه البخاري في الأدب، باب الحذر من الغضب، حديث 6114
17-أخرجه أيضا في الأدب، باب ما يجوز من الغضب، والشدة لأمر الله تعالى حديث 6110
18-أخرجه مسلم في الإمارة، حديث 1848و1850
19-أخرجه البخاري في المظالم، باب أعن أخاك ظالما أو مظلوما، حديث 2444
20-د.فتحي الدريني، مرجع سابق، ص 196
21-ابن القيم الجوزية رحمه الله، أعلام الموقعين، دار الجيل، بيروت، ص 3/3
22-ينظر شرح القواعد الفقهية للشيخ أحمد بن محمد الزرقا، حيث يورد الكثير من الأمثلة عند شرحه للقواعد، وهي أمثلة تصلح موضوع دراسة في مجال حقوق الإنسان
23-جزء من حديث قدسي أخرجه مسلم في البر والصلة. حيث 2577
24-أخرجه البخاري في الديات، باب إثم من قتل ذميا بغير جرم، حديث 6914
25-د.سهيل حسين الفتلاوي، حقوق الإنسان في الإسلام، دار الفكر العربي، بيروت. ط1/2001 ص05
26-الإمام الشاطبي رحمه الله، الموافقات في أصول الأحكام، دار الفكر، بيروت، ص 2/268
حسن المعنقش