3- لماذا فقه الواقع
فقه الواقع ضروري في تنزيل أحكام الدين، وفي تبليغ رسالة الإسلام، وفي التعامل مع الناس، وفي اختيار الخطاب الدعوي والمصطلحات اللازمة، ويمكن إيراد أهم دوافع ضرورة فقه الواقع في التالي:
§ لأنه على أساسه تتحقق مناطات الأحكام
فالأحكام تجري على مناطاتها، ومعناه "أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي، لكن يبقى النظر في تعيين محله، وذلك أن الشارع إذا قال: (وأشهدوا ذوى عدل منكم) الطلاق:2 ، وثبت عندنا معنى العدالة شرعا افتقرنا إلى تعيين من حصلت فيه هذه الصفة، وليس الناس في وصف العدالة على حد سواء، بل ذلك يختلف اختلافا متباينا،....، كما إذا أوصى بماله لفقراء، فلاشك إن من الناس من لا شيء له، فيتحقق اسم الفقر، فهو من أهل الوصية، ومنهم من لا حاجة به ولا فقر وإن لم يملك نصابا، وبينهما وسائط، كالرجل يكون له الشيء ولا سعة له، فينظر فيه: هل الغالب عليه حكم الفقر أو حكم الغنى، وكذلك في فرض نفقات الزوجات و القرابات، إذ هو مفتقر إلى النظر في حال المنفق عليه والمنفق..."1 ، ويتبين من خلال هذا الكلام النفيس أن على أساس الواقع الذي هو موضع تنزيل الحكم ، يتحقق مناط الحكم بتعيين محله،
§ على أساسه نستلهم قاعدة التدرج والمرحلية
فالواقع لا يرتفع وهذه قاعدة عامة، في التعامل معه، فانطلاقا من العلم بالواقع وفقه تحولاته وأحداثه و أحواله الراهنة، تتحدد الأولويات، وتقام الموازنات، في عملية تنزيل الشرع وأحكامه، وسيرة رسول الله عليه الصلاة والسلام تبين لنا قيمة هذه القاعدة العظيمة، بل حتى تنزل القرآن على رسول الله عليه الصلاة والسلام كان منجما، وأحكامه كانت تتنزل تترى، إن عملية تنزيل الدين دعوة وتبليغا وتمكينا لأحكامه، تحتاج إلى بصيرة نافذة في الواقع، تعتمد على قاعدة ذهبية هي التدرج والمرحلية، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها: " لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين، بابا شرقيا وبابا غربيا وزدت فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة"2، إن مرحلة التدافع شيء ومرحلة التمكين شيء آخر، و فقه زمن التدافع ليس هو فقه زمن التمكين، وإنما ينشأ الالتباس من مساواة الواقع بالواجب، ف"الواجب شيء، والواقع شيء، والفقيه من يطبق بين الواقع والواجب وينفذ الواجب بحسب استطاعته لا من يلقي العداوة بين الواجب والواقع، فلكل زمان حكم"3
* على أساسه يتم انتقاء نوعية الخطاب الدعوي التبليغي للناس (مراعاة للأعراف والعادات والمصطلحات)
إن واقع الناس يتباين من مكان لمكان، ومن منطقة لمنطقة، بل من حي لحي، وفقه واقع الناس ضروري للدعاة ولخطابهم الدعوي، حتى يكون مناسبا وتلقاه القلوب والآذان بكل تمعن، لذلك فالخطاب بما هو حقل دلالي للمصطلحات والمفاهيم، لا بد أن يراعي الحقل الدلالي المتداول بين الناس، ولسان القوم، كما أنه لا بد أن يراعي العادات والأعراف والتقاليد، وننقل هنا كلاما نفيسا في هذا الباب للإمام القرافي الفقيه المالكي رحمه الله، يعد فيه بعض الشروط التي ينبغي أن يتميز بها المفتي، -ولعل الكلام قد نعممه لكل داعية مسلم مكلف- يقول الإمام القرافي رحمه الله:"ينبغي للمفتي إذا ورد عليه مستفت لا يعلم أنه من أهل البلد الذي منه المفتي وموضع الفتيا: أن لا يفتيه بما عادته يفتي به حتى يسأله عن بلده وهل حدث لهم عرف في ذلك البلد في هذا اللفظ اللغوي أم لا؟ وإن كان اللفظ عرفيا فهل عرف ذلك البلد موافق لهذا البلد في عرفه أم لا؟ وهذا أمر متعين واجب لا يختلف فيه العلماء، وأن العادتين متى كانتا في بلدين ليستا سواء أن حكمهما ليس سواء، إنما اختلف العلماء في تقديم العرف على اللغة أم لا؟ والصحيح تقديمه لأنه ناسخ والناسخ مقدم على المنسوخ إجماعا، فكذلك هاهنا"1، ويقول ابن تيمية رحمه الله كذلك:" مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغته ليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك وكانت المعاني صحيحة...وإنما كرهه الأئمة إذا لم يحتج إليه"2 ، هكذا يتبين لنا أن الخطاب الدعوي والوعظي، الذي هو من صميم رسالة المسلم والداعية، يحتاج إلى فقه لواقعه حتى ينزله بالشكل الذي يجعله ينجح في مهمته التبليغية الجليلة.
§ انطلاقا منه تتحدد خارطة الخصوم والحلفاء والمحايدين بناء على الدين
فكما أنه كان لكل زمان أعداء و خصوم للأنبياء، باعتبارهم عليهم السلام كانوا حاملي رسالة دعوة إلى الله إلى أقوامهم وإلى الناس ، فإن لكل زمان أعداء وخصوم للدعوة وللدين، وهذه من سنن الله التي لن تجد لها تبديلا، يقول تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين، وكفى بربك هاديا ونصيرا) الفرقان آية31.
من خلال ذلك قد نفهم لماذا أمر الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه بالهجرة إلى الحبشة رغم أن أهلها يدينون بالنصرانية، ونفهم لماذا أقام بعض المعاهدات مع بعض القبائل، ولماذا عمل بقانون الجوار في المرحلة المكية، ففقه الواقع يسمح لنا من تصنيف درجة الخصومة والعداء، ودرجة الحياد أو التحالف أو التعاون مع المخالفين في المرجعيات أو الاجتهادات، إذ ليس كل مخالف في المرجعية أو في الاجتهاد هو خصم محارب، كما أن فقه الواقع يسمح لنا بأن تستبين كيد الأعداء والمجرمين وخططهم وحيلهم وقد بينا ذلك سلفا.
4- ضوابط أساسية لفقه الواقع
ثمة ضوابط أساسية، يلزم في تقديرنا أن ترافق عملية فقه الواقع والإحاطة به كي لا تنحرف هذه العملية عن أهدافها الشرعية، كما حددناها سلفا في التعريف وهو:" ترشيد تنزيل الأحكام، وتحديد الوسائل الموصلة إلى إحداث التحولات المنشودة، التي تنفع تنزيل و نشر ونصر الدين وتقوية وحماية الأمة وتبليغ رسالة الإسلام إلى البشرية جمعاء" ويمكن إجمالها في التالي:
§ الالتزام بالوسطية في قراءتنا للواقع
ونقصد بذلك أن ترافق قراءتنا للواقع، عدم التهويل أو التهوين به، بمعنى أن تتحلى القراءة للواقع بالوسطية، كي لا نقع في مطب التيئيس المنهي عنه، وأن" ليس في الإمكان أفضل مما هو كائن"، ذلك لأن المسلم تصحبه عقيدة الإيمان بالغيب، ولا يخضع تحليله للأحداث كليا لما هو مادي صرف، فقد تكون الأمة تمر بلحظة استضعاف وهوان، أو لحظة ظلم وطغيان، أو لحظة انتشار للفجور، وسلاحنا في هذه القراءة هو الإيمان بأن التاريخ جولات، (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس) آل عمران آية 140، يقول ابن كثير في معرض تفسيره لهذه الآية :" أي نديل عليكم الأعداء تارة، وإن كانت لكم العاقبة لما لنا في ذلك من الحكمة"1
§ تحري صحة الأخبار
ومنه التثبت في مصدر الخبر وفي مضمون الخبر ، ذلك لأنه إذا كان المصدر معروفا بعدم مصداقيته (فسقه وعدم عدله بتعبير القرآن)، وجب الاحتراز منه والتثبت من خبره، وعدم الانجراف وراء الشائعات، التي قد تبنى عليها تحليلات مجانبة للصواب، و أحكام خاطئة قد تصيب قوما بجهالة، ذلك أنه " من ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعا، لأن الخبر أمانة، والفسق قرينة يبطلها"2، فصحة التحليل وتقريب النتائج الصحيحة منه، ينبني على صحة المعلومة أولا،
§ استشارة أهل التخصص في بعض المجالات
ومنه عدم التطاول على المجالات التي ليس للمرء علم كثير بها، فذاك أصل من أصول التعلم، وهو مسؤولية وأمانة لذلك قال الله تعالىولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) الإسراء آية 36، قال قتادة:" لا تقل رأيت وأنت لم تر وسمعت و أنت لم تسمع و علمت و أنت لم تعلم"1، ومنه الاستفادة من التقارير الميدانية واستطلاعات الرأي ومراكز الدراسات والخبراء في أي مجال نود معرفته والإحاطة به.
§ عدم إغفال فقه الشرع ابتداء ونهاية
وذاك من ضمانات عدم التيهان وراء التحليلات، والإمساك الدائم بتلابيب الواقع عن طريق إخضاع هذه التحليلات وهذه القراءة للأصول الشرعية، ومنها التمسك بالمبادئ وعدم المساومة عليها، وتقدير المصلحة بميزان الشرع، ولذلك كان الواقع مهما في تحديد الوسائل لا في تغيير حقيقة الأحكام، فكل أمر حكمه الشرعي باطل فهو باطل، وكل أمر حكمه الشرعي حق فهو حق، أما كيف نجابه الباطل فهذا موضوع الوسائل وهذه ذات صلة بالمصلحة الشرعية، فحيثما كانت المصلحة الشرعية كان اختيار الأسلوب والوسيلة، إن إغفال فقه الشرع على حساب فقه الواقع، قد يجعل صاحبه يقيم عداوة مع الشرع، كما أن إغفال فقه الواقع كليا على حساب فقه الشرع قد يجعل صاحبه يلقي الخصومة مع الواقع، والتوليفة المثلى هي فهم الواقع وفهم الواجب فيه، يقول ابن القيم بهذا الصدد :" فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله"2، ففقه الشرع منه ننطلق وإليه المنتهى.
§ المعايشة اليومية للواقع
إذ معايشة الواقع جزء من التفقه فيه، ولهذا كان الحث على المخالطة الإيجابية للناس والمجتمع، جزء من عملية التفقه، لأنها مكملة للأجزاء الأخرى المتمثلة في الدراسة العلمية والاستعانة بخبرة أهل الاختصاص، وقد فصلنا في ذلك سلفا في حديثنا عن أهمية فقه الواقع في صياغة خطاب دعوي مناسب، وهذا لن يتسنى إلا بالمعايشة الواقعية للناس والمجتمع ومعرفة أعرافه وعاداته ومراعاتها في الخطاب والدعوة.
على سبيل الختم
وأخيرا ، كانت هذه أهم الضوابط وقد تكون أخرى، لحسن فقه الواقع فقها سليما، وفي خلاصة يمكن أن نقول، إن رسالة الإسلام جاءت لتصحيح أوضاع مختلة، بميزان الإسلام، والمسلم مطالب أن يسهم في هذا التصحيح، وأن يضع لبنة ضمن لبنات استئناف الحياة الإسلامية القويمة التي هي معطلة في كثير من المجالات، و لأن عملية استئناف الإسلام لا تتم إلا بالإسلام، كان الشرع ضابطا أساسيا في الانطلاق منه للاهتداء إلى طرق فقه الواقع المراد تصحيح أوضاعه المختلة، وفي الانتهاء إليه لفهم الواجب في هذا الواقع.
والله الموفق وهو يهدي السبيل.
1 انظر لسان العرب ج 13 ص522. ومختار الصحاح ج1 ص 213.
2 انظر مقال للشيخ سلمان العودة حول " أزمة الفهم"
www.islamtoday.net1 للمزيد من التفصيل يرجى الرجوع لمقال "في الحاجة إلى فقه استئناف حياة إسلامية قويمة" للأستاذ أحمد بوعشرين
www.islamtoday.net ,و
www.siraje.net .
2 تفسير ابن كثير ج2 ص 137.
1 أخرجه البخاري و احمد ومسلم وهو في صحيح السيرة النبوية للألباني رحمهم الله جميعا.
2 وهو حديث قد صححه الألباني في صحيح السيرة النبوية.
3 - متفق عليه- البخاري8/267، ومسلم(2583).
4 انظر صحيح السيرة النبوية للألباني
1 الموافقات للشاطبي كتاب الاجتهاد المجلد الخامس ص 12،13،14.
2 صحيح مسلم-كتاب الحج- الحديث رقم 2370.
3 ابن القيم الجوزية-أعلام الموقعين- ج4 ص169.
1 الإمام القرافي- الأحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام-ص232-دار البشائر الإسلامية الطبعة الثانية-1416ه-1995م.
2 ابن تيمية – موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول-ج1 ص54.
1 تفسير ابن كثير ج1 ص 409.
2 تفسير القرطبي ج 16 ص 312.
1 نفس المرجع ج10 ص257
2 ابن القيم الجوزية -أعلام الموقعين- ج1-ص 69 – دار الكتب العلمية-ط2 –1414ه-/1993م.
د.أحمد بوعشرين