"الحوار" مصطلح يحتل مساحة كبرى في الفضاء المعرفي الإسلامي -إذ لا تضحية بدون قناعة ولا قناعة بدون حوار- لذلك ينبغي للإسلاميين الذين يحملون هم التغيير الحضاري الشامل، أن يدركوا دائما أن الأداة الأولى في الممارسة الراشدة هي الحوار سواء فيما يتعلق بعرض مشروع التغيير أو الدفاع عن مضامينه وصد الشبهات المثارة حوله. وكلما كان البناء النظري لمفهوم الحوار راشدا، أمكن للمشروع الإسلامي التقدم باتجاه الهدف في مساحة التدافع الحضاري. وهذه اللبنة يرجى لها أن تكون منطلقا في تأسيس ذلك البناء، عسى أن تتبعها لبنات أخرى. وعلى الله قصد السبيل
1- الحوار ومرجعية الخطاب الإسلامي
حينما نلقي نظرة فاحصة في ثنايا المرجعية الإسلامية المتمثلة في القرآن الكريم أساسا والسيرة النبوية، نجد أن جزءا وافرا منها يتألف من محاورات ومناظرات.
فالقرآن الكريم قدم لنا نماذج كثيرة من الحوار، منها ما دار بين الله جل جلاله والملائكة في موضوع خلق آدم ... وبينه سبحانه وإبليس اللعين، وبين الأنبياء - عليهم السلام وأقواهم كما عرض لأقوال الكافرين والمنافقين وأهل الكتاب والملأ والسفهاء وأولى الطول والنعمة، بل حتى حوار أهل الجنة مع أهل النار ... مما يعطي لقضية الحوار عمقا يمتد من بدء الخليقة نفسا واحدة إلى أن تميز فريقين « فريق في الجنة وفريق في السعير » ولكن الملاحظ أيضا. أنه بإزاء هذه الحرية في الكلام، لم يعط الوحي الإلهي حرية مطلقة تميع مبدأ الحوار وشرعيته .. وتجعل منه حوارا مغشوشا استهلاكيا يقول سبحانه في سورة النساء الآية (138) : «وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آية الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره، إنكم إذا مثلهم، إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا».
أما السيرة النبوية العطرة فنأخذ مثالا واحدا منها، حبا في الاختصار. يظهر إتقان الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم لفن الحوار الراشد.
- فحينما جهر الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوته، أرسلت قريش عتبة "بن أبي ربيعة" إليه ليفاوضه ويغريه، وفي القصة التي يرويها ابن هشام، نجد أن الرسول الكريم أحسن الاستماع، لعتبة، وقال له : قل يا أبا الوليد أسمع، فلم قال عتبة ما عنده، وسأله : أفرغت يا أبا الوليد ؟ قال نعم، ومعنى ذلك أنه أحسن الاستماع تماما، وأعطى محدثه الفرصة ليقول من جديد دون أن يعالجه، فلما تأكد من فراغه مما عنده، بدأ التلاوة، وهذا قمة الأدب، جعل الطرف الآخر تتفتح نفسه للسماع، فكانت تلك مقدمة محمودة، مهدت للموضوع وهو تلاوة آيات من الذكر الحكيم (سورة فصلت)، ثم قال لعتبة، قد سمعت يا أبا الوليد، فأنت وذاك ففي تصرفه صلى الله عليه وأله وسلم ذوق جم، وحسن استماع منه يقتضي حسن إصغاء من عتبة بن أبي ربيعة، وهذا كله يجعل عتبة مستعدا للتلقي، ولذلك لا غرابة أن قال قومه بعد إذ عاد إليهم :
- "سحرك يا أبا الوليد بلسانه".
وقد تسلح صلى الله عليه وآله في كل حواراته الكثيرة بمنهجية
- البلاغ المبين والصبر الجميل
2- في الخطوات المنهجية :
1) الإطار العام
لابد من مراعاة الظروف المحيطة الثلاثة
أ- ظروف المكان : أهو جلسة إيمانية .. حلقة نقاش ..
أمسية ثقافية .. حديقة عمومية أو شارع عمومي ..
ب- ظروف الزمان : هل الوقت كاف لإثارة الموضوع كله أو جزء منه، وهل الموعد المحدد يأتي بعد عمل مهني متعب، أو في عطلة، ثم هل طبيعة المرحلة تنسجم وموضوع الحوار أم لا ؟!
وقدوته قصة الإمام مالك رضي الله عنه في فتواه وهي مشهورة !..
- التسليم بالخطأ : في ابتلاء الله تعالى لكل من آدم وإبليس، يتضح مسلكان في المنهج والتقدير، فآدم عليه السلام، سلك سبيل الاعتراف بالخطأ وطلب العفو فنال الرضا، بينما إبليس لعنه الله، سلك طريق التبرير والمكابرة، فباء بسخط الله.
حقيقة أن التسليم بالخطأ يحتاج إلى شجاعة أدبية ومجاهدة للنفس، ولكن متى اعتاده الإنسان وجد له حلاوة وأكسبه احترام الآخر وثقته.
- التحدي والإفحام : « ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم » - أحيانا قد يضخم المحاور خصمه ويسكته بقوة الحجة، ولكنه لا يقنعه، فيرفض التسليم له بعاطفته حتى وإن كان عقله معه، ومادام كسب القلوب أهم من كسب المواقف. فلابد من التلطف والتدرج، فربما يكون الاقتناع مع مرور الزمن، باعتبار الوقت هنا جزءا من علاج الأفكار والنفوس. على أن هناك حالات تستثنى من ذلك، يكون فيها الجهد الحاد المركز على الخصم وإحراجه وتسفيه رأيه، مطلبا مقصودا في المناقشة والمحاورة، وذلك إذا أساء إلى الفكرة وأهانها أو تجاوز حدود الأدب أو مثل الباطل أمام الناس، فينبغي تعريته ليظهر الباطل مدحورا، كما في قصة إبراهيم عليه السلام مع النمرود - « فبهت الذي كفر » وقصة نوح مع قومه .. « قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب، أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان .. » الخ
- وأقصد في حوارك : الحديث ذو شجون -كما يقال- وكثيرا ما يتشعب موضوع المناقشة ويمضي في أمور فرعية بعيدة عن الأصل، فيضيع الوقت والجهد، وتبدد الطاقات وتكون المناقشة عميقة، لذلك على المحاور أن يحرص ما استطاع على التركيز ليصل في نتيجة واضحة ومنسجمة كتأصيل مبدأ أو توضيح مفهوم.
ج- الحصاد :
+للجاهلين .. سلاما : في بعض الأحيان يجد المناقش أن شقة الخلاف بينه وبين الطرف الآخر كبيرة جدا، وأن هناك اختلافا على أمور أساسية عدة لا يسمح الوقت بمناقشتها.
أو تكون المناقشة من الطرف تضييعا للوقت وتبديدا للجهد، عند ذلك يكون من الأفضل إقفال باب المناقشة بطريقة لبقة تنفي العجز والهزيمة عن صاحبه، كما ينصح بإقفال المناقشة، إذا لم يكن المحاور الآخر جادا باحثا عن الحق.
+« فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون : » « قد يخفق المحاور في إقناع صاحبه، وإن أقام الدليل وجاء بالحجة. وأصل ذلك أن النفس الإنسانية مزيج عجيب من عوامل شتى، منها عامل الهوى الذي يعمي البصيرة، ومنها عامل الكبر الذي يبطر الحق ويغمط الناس. يحكي لنا القرآن الكريم نموذجين صادقين : الأول عن الآيات المعبرة التي جاء بها موسى عليه السلام، قومه و«جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعدوانا » والثاني في قصة يوسف - عليه السلام - إذ رغم براءته من تهمة التحرش بامرأة العزيز، بشهادة أهلها واعترافهم بأنها مكيدة دبرتها له، سجنوه بضع سنين !
+« وبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه » - هذه الحالة الايجابية .. يجب التعامل معها بوعي وملازمة .. لأن ما وقر في القلب والعقل يحتاج إلى ممارسة ميدانية تصقله وتجذره ليتحول بذلك إلى مخزون إيماني لا ينضب، وبصيرة واعية تتحرك في خط الإسلام - ولاء براءة - من أجل التمكين لدين الله في الأرض وإلا تحول الحوار إلى جدل نظري فارغ : « ما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا وأوتوا الجدل ».
3) خاتمة تحصيلية :
الحوار الراشد : ينشد الوصول إلى أكمل الصواب « ما اجتمعت أمتي على ضلالة ».
الحوار الراشد : يزرع اليقين ويصلب المناعة الذاتية تحقيقا للأس النبوي : "وطنوا أنفسكم" لا يكونن الرجل إمعة ..".
الحوار الراشد : يجدر بخم الشورى « وأمرهم شورى بينهم ».
الحوار الراشد : عمل تعبدي يؤجر فيه المجتهد أجران إن أصاب وأجر إن أخطأ.
الحوار الراشد : مقدمة للتسابق على الخيرات "فأستبقوا الخيرات" والتنافس على الحسنات و"في ذلك فليتنافس المتنافسون.
الحوار الراشد : تجسيد لمبدأ التواصي بالحق والتواصي بالصبر.
الحوار الراشد : أسلوب حضاري يساهم في التجديد الإسلامي وتطوير آليات الوعي.
الحوار الراشد : يؤسس القناعة الراسخة التي تثمر الإيمان الواعي الذي هو أساس العمل الصالح.
ج : ظروف الإنسان : ما هو مستوى الطرف المحاور في العلم والفهم والإستيعاب، ما مدى إيمانه بمبدأ الحوار، ما هي بيئته الاجتماعية والنفسية والثقافية؟..
فلكل مقام مقال، وليس كل ما يعلم يقال، وقد تغني الإشارة عن العبارة والكيس من خاطب الناس على قدر عقولهم، وأيقن أنهم معادن متباينون في درجاتهم.
2) المنطق : صلاح النية (الإخلاص) وصلاح العمل (الصواب).
فليس المقصود إظهار براعة من خلال الحوار، ولا انتزاع الإعجاب والثناء رياءا واعتزازا بالنفس، فذلك كله رد على صاحبه، وحتى إذا سلمنا بصلاح النية، فهل هناك مصلحة راجحة وفائدة ترجى من الكلام ؟! أم أنه خلافا لذلك سيثير فتنة نائمة أو أحقادا دفينة ! إذن فلابد من حد أدنى من صلاح العمل، ولا معنى للخلط بين النية والإجتهاد - إنه من البديهي أن يكون المحاور الإسلامي صادقا مع الله ثم مع نفسه مقتنعا بما يقول مستقيما عليه، حتى يصدق قوله على عمله وينتفع به الآخرون، إذ يرونه ذا مقام القدوة الصالحة التي تدعو بسلوكها. كما تدعو بلسانها ..
3) الدليل المرشد :
أ- مقدمات أساسية :
لكي تثمر عملية الحوار، ينبغي الاستعداد لها مسبقا وهذا يقتضي :
+العلم : « ولا تقف ما ليس لك به علم » .. فعلى المحاور أن يحدد مادنا العلمية ويتقنها مرضاة لله .." إن الله يحب أحدكم، إذا عمل عملا أن يتقنه واحتراما لنفسه وحياء من الناس وإذا « لم تستحي فقل ما شئت »، كما يقتضي الأمر كذلك الأمانة العلمية بحيث يتم احترام الحقيقة والأمانة في عرضها، بلا لبس ولا غموض وإلا فهو المنقصة في الدين، لأنه أخر الكذب، ثم إنه يسقط موقع المتحاور في حالة اكتشاف تلاعبه بالنصوص وتحايله في الاستشهاد.