الإيديولوجيا السياسية لحركة التوحيد والإصلاح
في الذكرى العاشرة لتأسيسها
بقلم: إسماعيل النسيمي
alislah.ma
لا يأتي استعمالنا هنا لمصطلح الإيديولوجيا السياسية من قبيل الحكم القيمي القدحي على المنظومة الفكرية للحركة، ذلك أننا آثرنا استعماله على أن مقصودنا منه هو ذلك النظام من الآراء التي تتأسس على نظام قيمي مقبول، والذي يحدد توجهات وسلوك ا|لأفراد تجاه أهداف يطمح الوصول إليها إما لمصلحة المجتمع أو لمصلحة مجموعة من الأفراد أو لمصلحة فردية (1).
و المتصفح في أدبيات حركة التوحيد والإصلاح، يدرك لا محالة أن الحركة أخذت منذ سنوات في الاتجاه نحو العمل العلني على الأقل في الإعلان عن أفكارها من خلال وسائل الإعلام المقروءة؛ فهذه الحركة تعد الحركة الإسلامية الأكثر انفتاحا على هذا النوع من الإعلام، فهي تملك جريدة ناطقة باسمها هي جريدة "التجديد"، ومجلة ثقافية إسلامية يمكن اعتبارها تابعة لها هي مجلة "الفرقان"، ومجموعة من الأدبيات والمؤلفات الصادرة باسمها، أو عن جهات محسوبة عليها، بالإضافة إلى موقع إلكتروني خاص، دون إغفال جريدتي "الصحوة" الموالية لها، و "العصر" الناطقة باسم الحزب الذي تتخذه الحركة كحليف سياسي استراتيجي، واللتين توقفتا عن الصدور.
وإذا كانت الإيديولوجيات السياسية للأحزاب المغربية تتسم في أغلبها بطابع الوضعية، فإن مثيلاتها عند التنظيمات الإسلامية المغربية التي ترفع شعار الشمولية في العمل، هي إيديولوجيات سياسية دينية، أو بتعبير أدق هي إيديولوجيات سياسية ترتكز على مسلمات عقدية وأحكام وقواعد ثابتة من الشريعة الإسلامية؛ فما هي أبرز سمات الإيديولوجية السياسية لحركة التوحيد والإصلاح ؟
أولا:الأساس الديني للإيديولوجيا السياسية لحركة التوحيد والإصلاح:
تؤسس حركة التوحيد والإصلاح لكل تصوراتها السياسية الجوهرية من منهج "التأصيل" الذي يراد به في الأدبيات الإسلامية تنزيل مصادر التشريع الإسلامي على الواقع للخروج بأحكام الشريعة الإسلامية في قضايا المجتمع الحادثة ؛ وصميم ذلك ما نجده معبرا عنه في ميثاق الحركة بالقول: « فنحن نجعل الكتاب والسنة المصدر الأعلى لكل مبادئنا و منطلقاتنا وأهدافنا، والموجه الأسمى لاختياراتنا واجتهاداتنا، ونجعل ما تضمناه فوق آرائنا و قوانيننا و قراراتنا. » (2)؛ كما نجد مجمل ذلك في ميثاق الحركة عند الحديث عن المجال السياسي كمجال من مجالات العمل عند التنظيم: « واهتمامنا بالمجال السياسي نابع من إيماننا الجازم بأن للإسلام حكمَه في كل شأن من شؤون الحياة علمه من علمه وجهله من جهله، ونابع من كون السياسة تتداخل مع حياة الناس اليومية وتوجه أفكارهم واهتماماتهم وتعبئهم وتشجعهم ضد أشياء أو لصالح أخرى، ولا يجوز إبعاد الإسلام عن الشأن العام وقد أنزله الله تعالى شاملا كاملا ليحكم الواقع الإنساني عامة وخاصة» (3) ؛ وليس في نظرنا أكثر دلالة على تلازم الديني والسياسي عند حركة التوحيد والإصلاح من اعتبارها كل نشاط مهما كان نوعه عملا تعبديا يرجى منه الأجر الأخروي، فتجد ميثاق الحركة يقرر في وضوح شاسع: « أول مبادئنا ومنطلقاتنا التي نحرص عليها ونتربى عليها ونذكر بها على الدوام أن نجعل وجه الله هو المراد من حركتنا وسكوننا ومن قولنا وعملنا وألا نريد إلا الله والدار الآخرة» (4).
أما عن إشكالية السلطة السياسية باعتبارها نواة المجال التصوري في الإيديولوجيا السياسية، فإن د. أحمد العماري القيادي في الحركة وعضو مكتبها التنفيذي سابقا يعتبر أن: « عروة الحكم هي إحدى عرى الإسلام الأساسية التي تشد باقي عرى نظام الأمة فهي مركزها. وأن انتقاض هذه العروة السياسية المركزية يؤدي بالضرورة إلى انتقاض بقية عرى الإسلام. » (5). أما المنظر الإيديولوجي للحركة ذ. محمد يتيم فلا يقيم بدوره أية حواجز بين الديني والسياسي، ويعبر عن مركزية دور السلطة السياسية في تنزيل أحكام الشريعة الإسلامية على الحياة السياسية و الاقتصادية والاجتماعية، إذ يقول: « ليس من شك في أن الإسلام دين ودولة، مصحف وسيف. وقد يكون من قبيل المراء أن نناقش أهمية السلطة السياسية التي تصدر عن شرع الله عز وجل في كل كبيرة وصغيرة تحمي بيضة الإسلام وتقيم حدوده وترفع راية الجهاد باسمه.» (6).
إن الأساس الديني للإيديولوجيا السياسية لحركة التوحيد والإصلاح يتجلي بوضوح ـ كما هو الشأن بالنسبة لكل الحركات الإسلامية المغربية ـ في هدفها الجوهري والاستراتيجي المتمثل في« تقريب الفجوة بين السلوك اليومي والنظام القيمي» (7)المستمد من المرجعية الدينية.
ثانيا: ملامح التصور السياسي لحركة التوحيد والإصلاح:
يقوم التصور السياسي لحركة التوحيد والإصلاح على مرتكزات منهجية في رؤيتها السياسية، كما يعتمد على اختيارات أساسية في منهجها للتغيير.
1ـ المرتكزات المنهجية للرؤية السياسية:
هنالك مرتكزان أساسيان يحكمان الرؤية السياسية لحركة التوحيد والإصلاح، فهي تصدر عنهما سواء في سياساتها الإستراتيجية، أوفي مواقفها المرحلية، فعلى مستوى الفعل السياسي العام تنطلق الحركة من مبدأ المصلحة والمفسدة، أما على مستوى الموالاة فإنها لا تخفي نزوعها الدائم إلى التحالف ما أمكن مع أطياف التيار الإسلامي المقربة إليها.
أ ـ مبدأ المصلحة والمفسدة :
تنطلق الحركة في رؤيتها التحليلية السياسية مما يسمى داخل الأدبيات الإسلامية بفقه الموازنات أوفقه الأولويات، وهي طريقة للنظر في القضايا التي يعج بها الواقع، ذلك أن اتخاذ المواقف والسير على الاختيارات يستبق دائما عندها بنظر شرعي وموازنة بين الإيجابيات (المصالح) والسلبيات (المفاسد)، في نسق يمكن أن ننعته بالبراكماتية الإسلامية المحكومة بخلفيات "السياسة الشرعية"،فسعد الدين العثماني ـ القيادي البارز في الحركة سابقا والأمين العام لحزب العدالة والتنمية الحليف السياسي للحركة حاليا ـ يقول: « العمل السياسي مجال ترجيح الراجح من المصالح والمفاسد المتعارضة: وهي قاعدة جليلة منها انطلق ابن تيمية لمناقشة القضية المعروضة وبسط الرأي الشرعي فيها. يقول رحمه الله وهو يتحدث عن الواجب في الولايات: فالواجب إنما هو الأرضى من الموجود، والغالب أنه لا يوجد كامل، فيُفعل خير الخيرين ويُدفع شر الشرين. » (
.أما محمد يتيم فيحدد القواعد الشرعية للنظر في الواقع بقوله: « فالقواعد الشرعية تقرر أن دفع المفاسد مقدم على جلب المنافع، وأنه لا يجوز دفع مفسدة بجلب مفسدة أعظم، أو جلب منفعة بتفويت منفعة أعظم منها، كما أنها تقرر جواز بل وجوب السكوت عن المنكر مخافة وقوع منكر أكبر منه احتمالا لأهون الشرين وارتكابا لأخف الضررين. » (9)، ويقول أيضا: « فإذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها، فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة، فيُنظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من الفاسد أكثر لم يكن مأمورا به، بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته. » (10).
ويبقى الترجيح بين المصلحة والمفسدة لدى حركة التوحيد والإصلاح أكثر مرتكزات رؤيتها السياسية أهمية، ذلك أن هذا المبدأ يحكم كل مواقفها واختياراتها ضمن نظر في مقاصد الشريعة عميق، وتمحيص لتناقضات الحقل السياسي معقلن، يتبدى من خلالهما اقتحامُ المصلحة السياسية قلبَ العملية البحثية في استخلاص الفتوى الشرعية، وكمثال على ذلك يقول د. أحمد العماري: «... يمكن اعتبار ما آل إليه أمر المسلمين بعد سقوط الخلافة الراشدة والذي أسماه الفقهاء "حكم الاستيلاء"، ومنه بالذات حكم الاستيلاء المعاصر الذي اعتمد على الانقلابات العسكرية، يمكن اعتباره نظاما لا يستند على مرجعية شرعية، وحين جوز الفقهاء "حكم الاستيلاء" جوزوه من باب الضرورة و الترجيح بين المفاسد لا غير، وليس باعتباره حكما شرعيا صحيحا. » (11).
ب ـ أولوية التقارب الإسلامي ـ الإسلامي:
تعتبر الحركة أن التعاون بين مكونات الحركة الإسلامية المغربية يعد من الناحية المبدئية أولى من التعاون مع غيرها، وذلك بحكم الاتفاق الحاصل فيما بينها حول قضية الهدف والمرجعية، ذلك أن الفاعلين الإسلاميين يتفقون حول المرجعية العليا والمقدسة لأحكام الشريعة الإسلامية في كل المجالات، فضلا عن أنهم يسعون جميعا إلى تحقيق الالتزام العملي بتلك الأحكام، ولذلك يعتبر د. أحمد الريسوني باقي الأطراف الإسلامية خصوصا جماعة العدل والإحسان أقرب الأقرباء، كما يعتبرهم بمثابة الشركاء في المرجعية والمنطلقات والمشروع (12). و صميم هذا المرتكز هو ما يفصح عنه ميثاق الحركة بالقول: « وأول جهة نتعاون معها هم الدعاة العاملون خارج حركتنا، لأن وحدة الهدف تجعل المتفق عليه أوسع بكثير من المختلف فيه، ففي التعاون عليه فسحة واسعة. ثم يأتي عموم المسلمين، وبعدهم غير المسلمين، وفي كل هؤلاء أصناف ودرجات وأولويات... » (13). بيد أن الحركة ترى أن أولوية هذا التعاون وضرورته يرجعان في الأصل وبالدرجة الأولى إلى أسباب دينية، ففي تعليق لمحمد يتيم على حدث الوحدة بين رابطة المستقبل الإسلامي وحركة الإصلاح والتجديد ـ الذي تمخض عنه تأسيس الحركة نفسها ـ نجده يعلن أن: « التوحيد أولا وقبل كل شيء ضرورة شرعية قبل أن يكون ضرورة سياسية أو مطلبا تفرضه التحديات الواقعية. وليس من شك في الآثار الواقعية لعملية التوحيد، وأثرها في رفع قدرة الحركة الإسلامية للاستجابة للتحديات الواقعية، فتلك ثمرة من ثمرات الاستجابة لأمر الله وليس هو الأصل الذي نقيم عليه توحيدنا. » (14).
كما أن منهج حركة التوحيد والإصلاح ـ على المدى الاستراتيجي ـ المتمثل في سياستها الرامية إلى توحيد أقصى ما يمكن توحيده داخل الصف الإسلامي، قد تُعُمِّدَ أن يُعبر عنه من خلال اسم الحركة نفسه : « فبقي المعيار الأهم الذي تحكم في النهاية في اختيار الاسم هو مراعاة الاسم الأكثر تعبيرا عن أهداف الحركة، فكان هدف التوحيد لله تعالى عقيدة، وللعاملين للإسلام توحيدا اندماجيا كما وقع بيننا، أو توحيدا تقريبيا، أو توحيدا تآلفيا، فكل هذه الأشكال والمستويات من التوحيد واردة. » (15)؛ لذلك تعتبر الحركة التوحيد بين مكونات الحركة الإسلامية المغربية مشروعا مستمرا يروم توحيد أقصى ما يمكن توحيده: « لذلك اخترنا أن نرفع شعار التوحيد بدل الوحدة. الوحدة نتيجة متحققة وانجاز ظرفي مكتمل وساكن، في حين أن التوحيد حركة تقدمية صاعدة لا يجوز أن تتوقف ولا أن تتراجع أو تنكص. » (16).