5-مشاريعنا السياسية وأزمة الوعي المغلوب.إنّ الوعيّ المتحرر من الهزيمة يُنتج القدرة على المقاومة والصّمود، ويصنع الإنتصار في نهاية المطاف، أما وقوعنا في أسرّ وعيّ الغالب، فيجعلنا نحمل في بنيتنا الشعورية واللاشعورية بُذور الهزيمة السياسيّة، ويحوّلنا إلى كائناتٍ نمطيّةٍ/ موّلعةٍ بمحاكاة الغالب/، والحاصلُ في تجربتنا الإسلاميّة، أنّ الوعي المتحرر لا وجود له إلا في حدود المرجعيّة التي ننطلق منها، والمبادئ التي نؤمن بها، في حين بقيت ممارستُنا مرتهنة في إطار وعيّ الغالب، مما جعل حياتنا عامة تحبل بالتناقضات بين ما نريدُ وما نقولُ وما نمارسُ
وهناك إختلالات أخرى تطبع خطابنا، تشطرُه إلى خطابٍ ممتلئٍ وقويٍّ ، من حيثُ تعلقه بقضايا التّصور للوجود/ مرتكزات الإيمان المجمل/ وخطاب أخر ضعيف وهزيل، من حيث تعلقه بقضايا التّصور للمحيط/ فقه الواقع، وفقه التنزيل/
ومعاركنا أيضا تتحكم فيها ردود الأفعال والموسميّة، والنّفس القصير، وضُعف القوة والعزم، وكثرة التبريرات والأعذار، وقلة التحضير والاستعداد والجهوزية.. ويطبعها التردد والاضطراب، فتدخلنا في دوامة أنصاف غزواتٍ أو غزواتٍ منقوصةٍ، تنتهي قبل أن ندخلها، فتكون النتيجة والعائدُ إنهاكٌ للذات الهلاميّة، وعدم رسوخها على أساس صلبٍ وذاتٍ عاقلةٍ.
ولذلك لا نزال نعيش وضعاً غامضاً وملتبساً، ونفتقد فيه الإستراتجيّة الواضحة؛ فنحن لا نجد في الوضع الدولي سوى التحدي الصّعب، ولا نجد في المُعطى الإقليميّ والمحليّ وضعاً مشجعاً، ولا نجد في الأطراف السيّاسية الوطنيّة أطرافاً مأمونة نركنُ إليها، ولا نجد في أوضاعنا الذاتيّة سوى التبعثر وتجزئ المُتجزء.. فما المطلوب منا أن نفعل ؟ وما هي دفاتر تحملاتنا؟
ومايزال وعيُنا يتراوح بين بؤس معارضةٍ رثةٍ بدون هدفٍ، وموالاةٍ متآكلةٍ بدون نتيجةٍ.. فيما النظامُ السياسيّ والفاعلون السياسيّون يتعاطون معنا وكأنّنا حالة هلامية يُمكن تطويعها وتكييفها، حسب الحاجة والمرحلة، ويتراوح تعاملهم بين الإقصاء القمعيّ في ظروفٍ، والتّدجين والإحتواح الممنهجين في ظروفٍ مغايرةٍ، ويتخذ الحوار في حالة وجوده شكلاً متخشباً../هدفه الغلبة ووسيلته القوّة/!.في حين الحاجة الإسلاميّة قائمة اليوم على أساس تنضيج إرادتنا السياسية، وتطوير مشروعنا السياسي/ وحدة وتحالفاً وتدافعاً/.. وإيماننا بقدرتنا على فرض وإنتزاع حقوقنا الشرعية، في التعبير والمشاركة الغير مشروطةٍ إلاّ بالشروط القانونيّة العادلة، والغير المحددة بسقوف الخرائط السياسيّة المدروسة من طرف الداخلية أو سلطة / ما يُعرف بحكومة الظّل/ هذا هو السّبيل لضمان وجودٍ سياسيّ مشروعٍ ومحترمٍ، يجمع بين المبدئية في المواقف، والواقعيّة في الآداء، حتّى تكون معارضتُنا متبصرة و بهدفٍ، وموالاتُنا واعية و بنتيجةٍ.
كما إنّ حاجتنا اليوم؛ للخروج من وعيّ الهزيمة أو الوقوع في أسرّ وعيّ الغالب، وكلاهما وجهٌ لعملةٍ واحدةٍ، المبادرة إلى إصلاحٍ سياسيّ ودستوريّ سليم، يقرّ بحقوق المواطنة الكاملة، في التنظيم والتعبير والمشاركة والتداوُل السّلميّ على السلطة، حتّى ننتقل من خُدّام للسلطة أو دعامة سياسية للنّظام، إلى ممارسين للسلطة إذا حضيّ مشروعُنا السياسيّ برضى أغلبية الشعب.
وهذه المبادرة ما زالت رحمُها ساكنة إلى الآن، وتحتاجُ إلى فاعلٍ سياسيٍّ يُخرجها من الظلماتِ إلى النور؛ فالمخزن السياسيّ بحاجةٍ إلى إرادةٍ سياسيّةٍ حقيقيةٍ ما زال حتّى الآن يفتقدها ، ويُناِور من أجل اِستبعاد كلِّ حديث جادّ حول الإصلاح السياسيِّ والدستوريِّ إمّا باسم الخصوصية السياسية، أو باسم أولوية التّنميّة البشريّة، ومسألة الجهة وعلاقتها بوحدتنا الترابيّة.. في حين لا تنمية بشرية في ظلِ مواطنٍ مرتهنٍ، ونسقٍ سياسيّ يفتقد للمعقولية السياسيّة؛ فالحرية تأتي بالخبز، لكنَّ الخبز لا يأتي بالحرية. أمّا القوى السياسية الوطنية فلم يتجاوز هذا المطلب المُلِحُ عندها مستوى الشعار السياسيِّ، وتطغى عليه عملياتُ التَّوظيف السياسيِّ وثقافة الإنتظارية ومنطق الرّقابة الذاتية... أما المجتمع المدنيّ فهو لم يتشكل بعد، وعمليات تشكله لا تخلو من تشوهاتٍ، ويُراد له أن يكون عبارة عن فسيفساءٍ رصيفيّ لا طعم له ولا رائحة. وأما القوى الخارجية فإفسادها أكبر من إصلاحها، ولا تمتلك سوى مشروع/ الفوضى الخلاّقة/ تجربه في بلادنا.
ويتحوّل عالمُ السياسة في ظلِّ هذه الغثائية../ إلى عالمٍ من الأ شياء، وتصبح الممارسة السياسية برُمتها مستقلة عن الفعل الإنسانيِّ، وكأنّها طبيعة ثانية، مؤثثة ومسقفة ومنتهية، ولم يعد بمقدورنا أن نفعل فيها أو نُغيِّر منها شيئاً/(13) وهذا يقود إلى تشيؤ العملية السياسية. والتشيؤ إستيلابٌ يخلق بنىً سياسية وإجتماعية خارجة عن إراداتنا، ونصبح دمىً لها.. فيسود الجمود والتكرار والهامشية، كما يسود عقلٌ أداتيٌّ يتعاطى مع الظواهر بعد تجريدها من المعنى والقيمة، ويتعامل مع الإشكالات بطريقة فنيّة علمانية مجردة من المبادئ الأخلاقية، ويعطي لواقع التجزئة وبعثرة المُبعثر قوة غير عاديةٍ، تجعل الفاعل السياسيَّ غارقاً في التناقضات الأفقية والعمودية، ولا يقوى على إحداث تغيّراتٍ جذريةٍ أو جزئيةٍ في محيطه، وتتحوّل الجماهير إلى كتلٍ بشريّةٍ، ليس لها هوية، تعيش خواءً روحياً في عالم لا تستطيع فهمه. ولا تبقى لنا إلا إمكانية التكيّف مع الأشياء، كما ُتنمطها الوسائط الثقافية والإعلامية وأدواتُ القهر المادية والرَّمزية.
ومثلما/ لم تعد الطبقة العاملة قادرة على إحداث الضغط المطلوب/(14)لأن التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، لم تعد قائمة في وعيِّ العامل البائس، ومادام النِّظام السياسيّ المخزنيّ قد إشترى ولاءها وإستوعبها في إطاره قمعاً وتدجيناً، فإنّ قطاعاتٍ أخرى قد بدأت تتساقط تِبَاعاً؛ فالقطاع الطلابيّ بدأ يعيش مرحلة هي أشبه بالموت السريريِّ، والعلماء يتم اِستتباعهم بشكلٍ قسريّ وتعسفيّ وبلا مقاومةٍ تُذكر، وفي المقابل هناك قطاعات يتِّم اِستنباتها بدون أن تمتلك طعماً أو رائحة؛ كبعض الجمعيات النّسوانية الّتي/( تنقلُ مركز الثقل من التَّمركز الذكوريِّ إلى التَّمركز حول الأنثى.. وتتذرع بإزالة ظلم تاريخيّ بإقامة ظلمٍ بديلٍ.. وتتجاوز المقاربة الإصلاحية الشاملة إلى المقاربة الفوضوية العشوائية)(15) وأندية ثقافية وإجتماعية وتربويّة أخرى يتم تحويلها إلى مرافق عموميةٍ ملحقةٍ بدوائر وزارة الداخليَّة أو السفارة الأميركيَّة..
فلقد حدد النظامُ المخزنيّ الخطوط العامة للتّطور السّياسي وحفر له قنواته وأخاديده الخاصّة الّتي لا يجوز الخروج عنها؛ وبذلك غدت الممارسة السّياسية متناقضة ومعقدة ومقيّدة بالعديد من الكوابح والعوائق والقيود..
وعلى أرضية التجزئة السياسية، وعجز الفاعل السياسي، صار همّ الجميع هو ضمان الإستمرارية والجمود، لأنهما شرطا الوجود السياسي، وجذره الذي يستقي منه نبع الحياة.. وصار هناك شبه تعاقدٍ سياسيّ غير مكتوبٍ،أو دستور عرفيّ، يروم تخريب وردع أية محاولةٍ لتحقيق التغيير الشّامل والحقيقيِّ..
فالجميع يساهم من موقعه في تشويه البُنَى السياسية وإلحاقها بعجلة الآلة المخزنية الجهنميّة؛ فالكيانات التجزيئية هي كيانات هشّة إمتصت وأزاحت كل معارضةٍ حقيقيةٍ، وكل من يريد أن يعارض يجد نفسه في الهامش. لذلك فهي كيانات للإستهلاك السياسي، وليست كيانات للتغيير.
والسؤال المركزيّ الذي يواجهنا نحن في فصائل الحركة الإسلامية، هو هل نقبل أن نعيش على محيطِ الدوّامة المخزنيّة وهامشها؛ بحيث يحتل هو مركزها ومستودعها، كغيرنا من الفاعلين السياسيِّين الذين سبقونا ب/إحسانٍ/.
والهزيمة المنكرة التي يراد لنا أن نتعرض لها ، هي اللَّعب بأسلحةٍ سياسيةٍ ضعيفةٍ، تخدم التوازنات الهشَّة، بدل أن تكون مخلّة بها، فنحن ندخل السَّاحة السياسية وإمكاناتنا محدودة، ولا نعمل على تغيير خريطة التجزئة، وتجاوز محنة التكرار.. فما المطلوب منا أن نفعل؟ وهل نمتلك معجزاتٍ؟ إن أية إمكانية نمتلكها أو يمكن أن نمتلكها ثم لا نستخدمها أو نسيئ اِستخدامها هو أسلوبٌ مدمرٌ.
إنّ العيش أو التعايش مع وعيِّ الغالب، سيُجفف منابعنا من عناصر الإيجابية والتفاؤل، ويولّد لدينا عقدَ الإحباطِ والشعور بالهزيمة والعجز المُزمن .. وإنَّ الخطّة السيكولوجية للقوى المعادية، تريد أن تعيش الحركات المعارضة، والجماهير المؤيدة لها، إرهاقاً يومياً بدون إنجازاتٍ، حتّى يسهل القِرَانُ بين المعارضة الجادَّة الجذريّة وبين الفشل السياسيِّ.
وإنَّ تحقيق ولو بعض الإنتصارات الجزئية النوعية، سَيُوَفِرُ بحرًا زاخرًا من الإمكانات والطاقات المستعدة للعطاء بلا حدودٍ، وسيربطنا بواقعنا أكثر، تصويباً وإصلاحاً وإضافة، وسيُمكِّننا من إعادة نقد مفاهمنا للتغيير؛ فإستراتجيتنا هي تُعبِّر عن المستقبل البعيد، ولكنَّها عاجزة عن التعبير عن المستقبل القريب؛ فهي وإن إمتلكت الجذور فإنّها بدون فاكهةٍ أو تماٍر، وهي في زُحمة النوازل تكاد تتحوّل إلى أحلامٍ وكوابيس.
نحو إعادة صياغة المستقبل.. مازال رهاننا في الحركة الإسلامية وغيرها من الحركات والأحزاب الوطنيّة، مشدوداً إلى خطاب من سيحتل القلعة؟ وحول القلعةِ أسيل الكثير من المداد والدّموع والدّماء.. في حين ما نحتاجه جميعاً؛ هو تحرير القلعة من فكر الهيمنة والإقصاء والسيطرة والإيديولوجيّة الشموليّة.
إنّ الواقع المغربيّ خاصة، والواقع الإقليمي والدولي عامّة، يحبل بالكثير من الإشكالات، ويحتاج إلى الكثير من الحلول، وليس واقعا منتهياَ دخل مرحلة نهاية التاريخ، حتَّى تُرفع الأقلامُ وتجف الصّحف ويسدل السِّتار؛ ولذلك يجب إمتلاك الوعيِّ النَّقديِّ باللحظة التاريخية المتوثرة، وبناءُ عالميًّةٍ بديلةٍ، إسلاميَّة المرجعيّة وإنسانيّة القضايا والهموم، تتعامل مع الخاص والعام بنوع من الجدل والشمول.. فوعيُ رسالة الإسلام ينبغي أن يتم من خلال المرحلة التاريخية المعطاة، وليس من خلال الجاهز والمنجز في الماضي؛ ف (تلك أمّة قد خلت، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عمّا كانوا يعملون) سورة البقرة، الآية141، بدون هذا الوعي التاريخيِّ والنقديِّ، نتحوَّل إلى وعيّ حالم وندخل في إبهام تاريخيّ.
وينبغي التحرر من الفكر المجرّد، ومعرفة حدودنا الكائنة والممكنة والمستحيلة، وتحديد الموضوعات القابلة للتعقل، والموضوعات الغير قابلة للتعقل، حتّى لا نتجاوز سقف المرحلة ولا نتخلف عنها، ونحدد بدّقة ما نريد؟.. إننا جزء من الحلّ، ولسنا كل الحلّ؛ قد لا نستطيع تحقيق كل ما نُريد، و قد نحقق بعض ما نُريد، قد يصاحبنا الفشل في بعض مشاريعنا، وقد ننجح في بعضها الأخر، ولكنَّنا يجب أن نُفكر أن نكون جسراً للأخرين، نفتح ممرات لهم ليمروا بسلامٍ، ونكون شاهدين على أرضية التَّدافع ، و/أينما كنا تكون ساحات النضال والمقاومة/، ثمّ نمضي، فكم هي الحركات الّتي مضت ولم تكن شاهدة ، واِنزاحت ولم تُشجل موقفاً ولم تقل كلمتها، أوكما قيل../ عاشوا وما حضروا وماتوا وما ذكروا/.
وينبغي كذلك أن ننهي القطيعة الفكريّة والمنهجيّة مع الفكرالإسلاميِّ والعربيِّ النّهضويِّ الحديث؛ تلك القطيعة التّي أفقدتنا تراكماً معرفياً ومنهجياً في غاية الأهميّة، وجعلتنا نخرج من/ دائرة الاجتهاد والتجديد إلى دائرة التراث والمستهلك/.
وإنّ التّاريخ لا يُبنى بالقطائع ، كما لا يُولد مكتملاً؛ فالقطائع تضطرك إلى العودة إلى البداية من جديد ، وأنت مثقل بديون تاريخيّة، كما أنَّ إدعاء الإكتمال هو الأخر إرتدادٌ إلى نهايةٍ لا تاريخيةٍ/أي صفرٍ عدميّ/ يُنتج /الأفكار الميِّتة المتجاوزة، والأفكارالمُمِيتة التغريبيّة/(16)، ويُعيد إنتاجهما.
فتتحوّل البداية ختاماً، والحركة سكوناً، والتجديد تقليداً، والإنفتاح إنغلاقاً، والوسطيّة إفراطاً أو تفريطاً... وتتعثر العلاقة بين الكينونة والسيرورة؛ إذ كيف نثبت الذات، وكيف نستمر في الحياة؛ ونغتسل بماءها المتدفق والمتجدد في كل لحظةٍ، ونحن نحمل في وعيِّنا واللاوعيِّنا الكثير من الماضي/ غزواته- فتنه- ونوازله/ والقليل القليل من الحاضر والمستقبل؟ ونجيب بإسهام عن ما كان، ونتلعثم ونتعثر عندما يتعلق الأمر بما ينبغي أن يكون. وكيف نتجاوز محنة هذه الثنائية كذلك؛ ونحن نرى في ماضي الأخر المتغلب مستقبلاً لنا، ونسوّق ذلك لأجيالنا باسم حداثة هي معطوبة وغير منتجة؟ . ثم إن مقولة من قبيل/ ليس بالإمكان أحسن مما كان/ تُجردنا من أيِّ إمكانيةٍ للإبداع؛ ولذلك كان الفقيهُ الأندلسيّ أبو عمرابن عبد البّر- رحمه الله تعالى- يقول
.. ولا كلمة أضرّ بالعلم وبالعلماء والمتعلمين من قول القائل ما ترك الأول للآخر شيئاً)(17).
إن إرتباطنا برحم مؤسسة/السلف الصالح/ اتسم بالسمو والطهارة، يجب ألا يسقطنا في أسر خطاب تقديسيّ، يطلق عليه تجاوزاً /التشيّع السنيّ/(18).. فالسلف الصالح كان منهم السابق بالخيرات، والمقتصد، والظالم لنفسه، وقد غمرت حسناتهم سيئاتهم، ولا يجوز بالمطلق الحديث عن خيريةٍ مطلقةٍ خاليةٍ من الشوائب والعلل والنواقص؛ لأن ذلك يجعل من عصرهم عصراً متعالياً، غير قابلٍ للفهم والإستيعاب، ويجعل من خطابنا الإسلاميّ خطاباً اِستثنائياً، لا يُمكنه أن يتجسد في النسبيّ والزمنيّ.
ومتطلبات المرحلة تقتدي كذلك التّحررمن مستقبل الماضي، وبناء مستقبلٍ للحاضر، يُراعي الإمكانات، ويحدد المهام؛ علماً أن ما كان مُمكنا بالأمس لم يعد ممكناً اليوم، نتيجة الإختلالات الكبرى التي حدثت في حياتنا.
إن تعاطينا مع الإيقاع الزمنيّ، ينبغي أن يتجاوزمفهوم /الزَّمن المنفلت/؛ فكل لحظة حاضرة عندما تنزاح، وتصير جزءاً من الماضي، يجب أن تصير في وعينا كذلك، وإلا حاصرتنا لحظات المستقبل التي تصير حاضراً، بحكم التدفق الزمنيّ، فتربك حساباتنا، بسيل من الأسئلة لم نستعد لها، لأنَّنا لم نتخلص من فاتورة الماضي بعد.
كما ينبغي أن نتجاوز مفهوم الزمن السا ئب الذي/ تتداخل فيه الأزمنة الثقافيّة/(19)، وتنتفي فيه التّخوم والفواصل بين المراحل التّاريخيّة؛ حيث تتعاشر بشكل تعسفيّ، فليس هناك جدول أعمال اِستنفذ أغراضه، وإنتهت زمنيته، وصار جزءاً من الماضي، فنحن ما زلنا نستهلك أسئلة الماضي، على أساس أنها أسئلة للحاضر والمستقبل، ونُمارس عمليات القياسات الفاسدة، وتحكمنا العقليةالإنتقائية.
ولذلك فنظرية الممارسة عندنا تفتقد لشرط التّراكم والتّسلسل التّاريخي؛ فالمفاهيم التي صاحبتنا منذ التّأسيس والبدء هي عينها التي تُصاحبنا اليوم وتُرافقنا بإستمرارٍ. والتجاوز- إن حصل- لا يكون بدون تعسفاتٍ وقطائع لا تاريخيّةٍ، ننتقل من خلاله من الشيء إلى نقيضه بدون توسط.
إن قياس المدى الزمني لذى الجماعات، يُوَضِّح لنا طبيعتها التقدميّة أو الرجعيّة؛ فالجماعات المشدودات نحو الماضي، يكون فيها الإيقاع الزمنيّ بطيئاً، والحركة فيها مكررة ومعادة، ويتحوّل الرّاهن لديها إلى عقدة . في حين إنّ الجماعات المشدودة نحو المستقبل لا يكون فيها الحاضر سوى جسراً، ولايكون فيها الماضي سوى ذاكرة وتراثاً، وتتسم حركيتها بالإيجابية والفاعلية.
وتقتضي عملية بناء المستقبل كذلك، التحرر من الأحادية الفكرية والسياسية التي تعشعش في فضاءاتنا؛ فليس هناك حالة إسلامية معزولة وأخرى وطنية في ضفة أخرى أو كوكب أخر، لكل واحدة منهما تاريخ خاص أونوازل خاصة، بل هناك تداخل وتركيب بصيغة التاريخ المشترك، والوطن الجامع، والمصيرالواحد، لذلك فمعادلة وطن بلا إسلام، هي معادلة فاسدة؛ لأنها طريق للإستيلاب، وذريعة تؤدي الى تعقيد عملية التغيير وإرباكها، كما أن معادلة إسلام بلا وطن هي معادلة مغشوشة تحرف الإسلام عن حقيقته، وتعزله عن نبع حياته وتجدده.